سلسلة الدروس الرمضانية، الدرس السادس: رمضان شهر الصبر(2)، للدكتور خالد بدير
سلسلة الدروس الرمضانية، الدرس السادس: رمضان شهر الصبر(2)، للدكتور خالد بدير.
لتحميل الدرس بصيغة word أضغط هنا
لتحميل الدرس بصيغة pdf أضغط هنا
وللإطلاع علي الجزء الأول وتحميله أضغط هنا
للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف
ولقراءة الدرس كما يلي:
سلسلة الدروس الرمضانية
الدرس السادس: رمضان شهر الصبر ( 2 )
تكلمنا مع حضراتكم في اللقاء الماضي عن النوع الأول من أنواع الصبر وهو ( الصبر على الطاعة ).
واليوم نلتقي مع النوع الثاني من أنواع الصبر وهو ( الصبر عن المعصية ) ؛ وفي الحقيقة كلٌ منا يتمنى أن لا يقرب المعصية؛ وفي هذا اللقاء نقف معكم مع الوسائل العشرة المعينة على الصبر عن المعصية وهذه الوسائل تتمثل فيما يلى:
الوسيلة الأولى : عِلْمُ العبدِ بقُبْحِ المعصية ورذالتها ودناءتها، وأنَّ الله إنما حرَّمها ونهى عنها صيانةً وحمايةً عن الدنايا والرذائل، كما يَحْمِي الوالدُ الشفيق ولده عمَّا يضرُّه، وهذا السبب يحمِل العاقل على تركها ولو لم يُعَلَّقْ عليها وعيدٌ بالعذاب؛ فعلى الإنسان أن يكون وقافاً عند حدود الله حتى لو لم يعلم علة التحريم والمنع .
فعَنْ أَبِى ثَعْلَبَةَ ؛ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ : ” إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ فَرَائِضَ فَلاَ تُضَيِّعُوهَا ، وَحَدَّ حُدُودًا فَلاَ تَعْتَدُوهَا ، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلاَ تَنْتَهِكُوهَا ، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ ، غَيْرَ نِسْيَانٍ ، فَلاَ تَبْحَثُوا عَنْهَا ” .( الطبراني والحاكم وقال عنه الهيثمي: رجاله رجال الصحيح ).
الوسيلة الثانية: الحياءُ من الله سبحانه ؛ فإنَّ العبدَ متى علم بنظَرِ الله إليه ومقامه عليه، وأنَّه بمرأى منه ومسمع، وكان حَيِيًّا استحيا من ربّه أن يتعرَّضَ لمساخِطِه. وقد جاء في جامع العلوم والحكم” قال أبو الجاد: أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء، قل لقومك: ما بالكم تسترون الذنوب من خلقي وتظهرونها لي. إن كنتم ترون أني لا أراكم فأنتم مشركون بي، وإن كنتم ترون أني أراكم فلم تجعلوني أهون الناظرين إليكم.!!”
قال أحدهم: إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل ….. خلوت ولكن قل عليّ رقيب
وقال آخر : وإذا خلوت بريبة في ظلـــــــــــــمة …… والنفس داعية إلى العصيانِ
فاستحيي من نظر الإله وقل لها ….. إن الذي خلق الظلام يراني
الوسيلة الثالثة: مراعاةُ نِعَمِهِ عليك وإحسانه إليك؛ فإنَّ الذنوب تزيلُ النِّعَم ؛ فما أذنب عبدٌ ذنبا إلا زالت عنه نعمة من الله بحسب ذلك الذنب؛ فإنْ تاب وراجعَ رجعتْ إليه أو مثلها، وإنْ أصرَّ لم ترجعْ إليه، ولا تزال الذنوب تزيل عنه نعمة حتى تسلبه النِّعَمَ كلَّها، وقد أحسن القائل :
إِذَا كُنْتَ فِي نِعْمَةٍ فَارْعَهَا … فَإِنَّ الذُّنُوبَ تُزِيلُ النِّعَمْ
وَحُطْهَا بِطَاعَةِ رَبِّ الْعِبَا … دِ فَرَبُّ الْعِبَادِ سَرِيعُ النِّقَمْ
وبالجملة فإنَّ المعاصي نار النعم، تأكلُها كما تأكلُ النارُ الحطَبَ، عياذا بالله من زوال نعمته وتحوّل عافيته.
الوسيلة الرابعة: خوفُ الله وخشيةُ عقابه، وهذا إنما يثبت بتصديقه في وَعْدِهِ ووعيده، والإيمانِ به وبكتابه وبرسوله، وهذا السببُ يقوَى بالعلم واليقين، ويضعُفُ بضَعْفِهما، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، وقال بعض السلف: “كفى بخشية الله علمًا، والاغترار بالله جهلًا”.
انظروا – يرحمكم الله – إلى الصحابة كيف كان خشوعهم وخشيتهم لله ومع ذلك يخافون من عدم قبول العمل؛ فعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-عن هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} (المؤمنون: 60) أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟! قال: “لا يا ابنة الصديق! ولكنهم الذين يصومون ويصلّون ويتصدقون، وهم يخافون أن لا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات.”( الترمذي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي) ، فهو يعطي ويخشى أن لا يقبل منه، يتصدق ويخشى أن ترد عليه، يصوم ويقوم ويخشى أن لا يكتب له الأجر !! ونحن نأتي الفواحش والمنكرات جهرة نهاراً دون خشية أو خوف والله المستعان .
الوسيلة الخامسة: محبة الله ؛ وهي أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ومعاصيه؛ فإنَّ المحبَّ لِمَنْ يحبُّ مطيعُ، وكلما قَوِيَ سلطانُ المحبَّةِ في القلب كان اقتضاؤُه للطَّاعَةِ وترك المخالفة أقوى، وإنما تصدُرُ المعصيةُ والمخالفةُ من ضعف المحبَّةِ وسلطانِها، وَفَرْقٌ بينَ من يَحْمِلُه على ترك معصية سيِّدِه خوفُه من سَوْطِهِ وعقوبتِه، وبينَ من يحمِلُه على ذلك حبُّه لسيِّدِه.
قال تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (آل عمران: 31).
ورحم الله الإمام الشافعي حيث يقول: تَعْصِي الإِله وَأنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ هذا محالٌ في القياس بديعُ
لَوْ كانَ حُبُّكَ صَادِقاً لأَطَعْتَهُ إنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ
الوسيلة السادسة: شَرَفُ النفس وزكاؤها وفضلها وأنَفَتها وحميَّتُها أن تختارَ الأسبابَ التي تحطُّهَا وتَضَعُ من قَدرِها، وتخفض منزلتَها وتحقِّرُها، وتسوِّي بينها وبينَ السفلة.
فينبغي على الإنسان أن يرقى بنفسه إلى معالى الأمور والأخلاق؛ قال مالك: ” عليك بمعالي الأمور وكرائمها، واتقِ رذائلها وما سفَّ منها؛ فإنَّ الله تعالى يحبُّ معالي الأمور، ويكره سفسافها.”( ترتيب المدارك للقاضي عياض)
لذلك فإن الله سبحانه وتعالي يحب صاحب الهمة العالية؛ ويبغض أصحاب الهمم الدنيئة ؛ فعن سهل بن سعد الساعدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله عز وجل يحب معالي الأمور ، ويكره سفسافها » ( الحاكم والطبراني بسند صحيح).
يقول ابن القيم: ” فمن علت همته، وخشعت نفسه، اتصف بكلِّ خلق جميل. ومن دنت همته، وطغت نفسه، اتصف بكلِّ خلق رذيل.” (الفوائد) .
فعليك أخي الصائم أن لا تطلق لنفسك العنان تلهث وراء كل ناعق؛ بل عليك أن تشد خطامها وتوجهها إلى كل خير ؛{ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}. ( الشمس 7 – 10).
وعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً ؛ تَقُولُونَ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا ؛ وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا ؛ وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا ؛ وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا “. ( الترمذي وحسنه ).
الوسيلة السابعة: العلم بسوءِ عاقبة المعصية، وقبح أثرها والضرر الناشيء منها: فاعلم أن ما أنت فيه من ضيق في الرزق ؛ وهم وحزن وفقر ومرض ؛ سببه كثرة المعاصي وظلمة القلب؛ وما أجمل مقولة عبد الله بن عباس: ” إن للحسنة ضياءً في الوجه ، ونورا في القلب ، وسعة في الرزق ، وقوة في البدن ، ومحبة في قلوب الخلق ، وإن للسيئة سوادا في الوجه ، وظلمة في القبر والقلب ، ووهنا في البدن ، ونقصا في الرزق ، وبغضة في قلوب الخلق . ” ( الداء والدواء لابن القيم )
وبالجملة فآثار المعصية القبيحة أكثر من أن يحيط بها العبد علماً، وآثار الطاعة الحسنة أكثر من أن يحيط بها علماً ؛ فخير الدنيا والآخرة بحذافيره فى طاعة الله، وشر الدنيا والآخرة بحذافيره فى معصيته.
الوسيلة الثامنة: قصر الأمل، وعلمه بسرعة انتقاله، وأنه كمسافر دخل قرية وهو مزمع على الخروج منها.
وكما جاء في الأثر: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً .
قال الحسن: نِعمَت الدَّار كانت للمؤمن؛ وذلك لأنه عمِل فيها قليلاً وأخذ منها زاده إلى الجنَّة، وبئسَت الدَّار الدنيا كانت للكافر والمنافق؛ وذلك لأنه أضاع فيها لياليه، وأخذ منها زادَه إلى النار.
تزود من معاشك للمعاد………… وقم لله واعمل خير زاد
ولا تجمع من الدنيا كثيراً…………….فإن المال يجمع للنفاد
أترضى أن تكون رفيق قوم…………..لهم زاد وأنت بغير زاد ؟
فأنتم الآن مسافرون إلى الله؛ فعليكم أن تتزودوا للقاء الله؛ ولنا القدوة في رسولنا صلى الله عليه وسلم وتصويره للدنيا، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهِ عُمَرُ وَهُوَ عَلَى حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَوْ اتَّخَذْتَ فِرَاشًا أَوْثَرَ مِنْ هَذَا؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا لِي وَلِلدُّنْيَا مَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ سَارَ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ فَاسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا ” [ أحمد والطبراني والحاكم وصححه ] .
فقد صوَّر الرسول- صلى الله عليه وآله وسلم- في هذا الحديث حياة الإنسان في هذه الحياة الدنيا بمثل الفترة التي يستريح فيها المسافر تحت ظلِّ شجرة في رحلة طويلة له، وهي- بلا شك- ضئيلة جدًّا مقارنة بطول الرحلة نفسها.
سبيلُكَ في الدنيا سبيلُ مسافرٍ ……….ولا بُدَّ من زادٍ لكل مسافرِ
فالمدة التي يمكثها المسافر تحت ظلِّ الشجرة لا تساوي إلا مقدارًا ضئيلًا مقارنة بالمدة التي يحتاجها لقطع رحلة سفره؛ وهذا التصوير من قِبَل رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- لا يعطينا مؤشرًا بقِصَر مدة هذا الحياة مقارنة بالحياة الأبدية في الدار الآخرة فحسب، وإنما يعطينا مؤشرًا حول تفاهة هذه الحياة وحقارتها، وأن على الإنسان ألَّا يعيرها اهتمامًا بالغًا إلا بالمقدار الذي يحتاجه للبقاء فيها.
فالإنسان في هذه الحياة الدنيا كمثل المسافر يقول ابن القيم – رحمه الله – : الناس منذ خلقوا لم يزالوا مسافرين, وليس لهم حط رحالهم إلا في الجنة أو في النار. والعاقل يعلم أن السفر مبني على المشقّة وركوب الأخطار، ومن المحال عادة أن يطلب فيه نعيم ولذّة وراحة, إنما ذلك بعد انتهاء السفر. ( الفوائد )
إننا نهتم ببنيان الدنيا والتزود لها وعمارتها وتشييدها مع أنها فانية ؛ وأهملنا بنيان الآخرة وتركنا بنيانها هاويا خرابا ؛ لذلك نكره الموت؛ كما سأل سليمان بن عبدالملك أبا حازم الزاهد قائلاً: يا أبا حازم مالنا نكره الموت ؟! قال : لأنكم خربتم الآخرة ، وعمرتم الدنيا فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب!. قال : أصبت يا أبا حازم!!!
فالعاقل من ترك الدنيا قبل أن تتركه، وبنى قبره قبل أن يسكنه، وأرضى خالقه قبل أن يلقاه، واستعد للموت قبل أن يصله، وأكثر من ذكر الله وحمده وشكره .
الوسيلة التاسعة: مجانبة الفضول فى مطعمه ومشربه وملبسه ومنامه واجتماعه بالناس، فإن قوة الداعى إلى المعاصى إنما تنشأُ من هذه الفضلات، فإنها تطلب لها مصرفاً فيضيق عليها المباح فتتعداه إلى الحرام. ومن أعظم الأشياء ضرراً على العبد بطالته وفراغه، فإن النفس لا تقعد فارغة، بل إن لم يشغلها بما ينفعها شغلته بما يضره ولا بد.
فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ ” [البخاري ] . يقول ابن حجر: ” أشار بقوله ” كثير من الناس” إلى أن الذي يوفق لذلك قليل. وقال ابن الجوزي: قد يكون الإنسان صحيحا ولا يكون متفرغا لشغله بالمعاش، وقد يكون مستغنيا ولا يكون صحيحا، فإذا اجتمعا فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون.”(فتح الباري).
فهيا نشغل أوقاتنا بالطاعة والعمل الصالح النافع ونحن في هذا الشهر الفضيل قبل أن نندم ولا ينفع الندم !!
الوسيلة العاشرة: وهي الجامعة لهذه الوسائل كلها: ثبات شجرة الإيمان فى القلب، فصبر العبد عن المعاصى إنما هو بحسب قوة إيمانه، فكلما كان إيمانه أقوى كان صبره أتمّ وإذا ضعف الإيمان ضعف الصبر، فإن من باشر قلبه الإيمان بقيام الله عليه ورؤيته له، وتحريمه لما حرم عليه، وبغضه له، ومقته لفاعله وباشر قلبه الإيمان بالثواب والعقاب والجنة والنار، وامتنع من أن لا يعمل بموجب هذا العلم.
ومن ظن أنه يقوى على ترك المخالفات والمعاصى بدون الإيمان الراسخ الثابت فقد غلط، فإذا قوى سراج الإيمان فى القلب، وأَضاءَت جهاته كلها به، وأشرق نوره فى أرجائه، سرى ذلك النور إلى الأعضاء، وانبعث إليها، فأسرعت الإجابة لداعى الإيمان، وانقادت له طائعة مذللة غير متثاقلة ولا كارهة بل تفرح بدعوته حين يدعوها، كما يفرح الرجل بدعوة حبيبه المحسن إليه إلى محل كرامته. فهو كل وقت يترقب داعيه، ويتأهب لموافاته. والله يختص برحمته من يَشاءُ، والله ذو الفضل العظيم. ( هذه الوسائل العشرة مقتبسة من كتاب طريق الهجرتين لابن القيم مع تدعيمها بالأدلة والآثار ).
فعليك أخي الصائم أن تعمل جاهداً صابراً عن المعاصي والمحرمات؛ وأن تذل نفسك وتقهرها عن فعل المنكرات؛ إنك إذا فعلت ذلك – مع ما يحيط بك من فتن ومغريات – فسيكون لك أجر خمسين من صحابة النبي العدنان صلى الله عليه وسلم ؛ فعن عتبة بن غزوان ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن وراءكم أيام الصبر ، المتمسك فيهن يومئذ بمثل ما أنتم عليه له كأجر خمسين منكم » ، قالوا : يا نبي الله ، أو منهم ؟ قال : « لا ، بل منكم » ، قالوا : يا نبي الله ، أو منهم ؟ قال : « لا ، بل منكم » ثلاث مرات ، أو أربعا .” وفي رواية بزيادة: ” إنكم تجدون على الخير أعوانا وهم ولا يجدون ” ( أبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه والطبراني واللفظ له ).
وقد استشكل هذا الحديث مع قوله صلى الله عليه وسلم: ” وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ .” (متفق عليه). ” ؛ وغير ذلك من الأحاديث التي تدل على فضل الصحابة وعلو منزلتهم؛ وأن المتأخرين مهما بلغوا من العمل لم يصلوا إلى درجتهم في الفضل والرفعة.
وقد تكلم العلماء في ذلك فقالوا: أن الأجر أجران: أجر العمل ؛ وأجر الصحبة . فقد يعمل بعض المتأخرين من الأمة أعمالاً أجرها أكبر من أجر من عمل مثلها من بعض الصحابة لقلة الناصر وضعف المعين والفتنة والبلاء؛ ولكنهم لا يبلغون أجر صحبة النبي صلى الله عليه وسلم ولقائه .
قال الحافظ ابن حجر : حديث ” للعامل منهم أجر خمسين منكم ” : لا يدل على أفضلية غير الصحابة على الصحابة لأن مجرد زيادة الأجر لا يستلزم ثبوت الأفضلية .
وأيضاً : فالأجر إنما يقع تفاضله بالنسبة إلى ما يماثله في ذلك العمل ، فأما ما فاز به مَن شاهد النبي صلى الله عليه وسلم مِن زيادة فضيلة المشاهدة فلا يعدله فيها أحد . فبهذه الطريق يمكن تأويل الأحاديث المتقدمة . ” فتح الباري ” .
وقال الإمام ابن تيمية رحمه الله : ” وقد يكون لهم – أي : للمتأخرين – من الحسنات ما يكون للعامل منهم – أي : من الصحابة – أجر خمسين رجلاً يعملها في ذلك الزمان ؛ لأنهم كانوا يجدون من يعينهم على ذلك ، وهؤلاء المتأخرون لم يجدوا مَن يعينهم على ذلك لكن تضعيف الأجر لهم في أمور لم يضعف للصحابة لا يلزم أن يكونوا أفضل من الصحابة ولا يكون فاضلهم كفاضل الصحابة؛ فإن الذي سبق إليه الصحابة من الإيمان والجهاد ومعاداة أهل الأرض في موالاة الرسول وتصديقه وطاعته فيما يخبر به ويوجبه قبل أن تنتشر دعوته وتظهر كلمته وتكثر أعوانه وأنصاره وتنتشر دلائل نبوته بل مع قلة المؤمنين وكثرة الكافرين والمنافقين وإنفاق المؤمنين أموالهم في سبيل الله ابتغاء وجهه في مثل تلك الحال أمر ما بقي يحصل مثله لأحد كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم ” لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدَّ أحدهم ولا نصيفه ” . ” مجموع الفتاوى ” .
والخلاصة: أن المضاعفة تكون للأعمال ؛ أما الصحبة فلا تعدلها أعمال وهذا ما انفرد به الصحابة.
وأن الأجر مضاعف مع كثرة الفتن والشهوات التي نعيش فيها الآن؛ فكلما كثرت الشهوات والفتن وتغلب العبد عليها كلما كان أكثر أجراً عند الله، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “ العبادة في الهرج كهجرة إليَّ ” [مسلم] . قال الإمام النووي: ” المراد بالهرج هنا الفتنة واختلاط أمور الناس ، وسبب كثرة فضل العبادة فيه أن الناس يغفلون عنها ، ويشتغلون عنها ، ولا يتفرغ لها إلا أفراد .”
ويدل على ذلك قوله: ” إنكم تجدون على الخير أعوانا وهم ولا يجدون ” .
فهنيئاً لكل من يصبر عن المعاصي وسط هذه الفتن والشهوات؛ فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :” يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ” . ( أحمد والترمذي ).
فنحن في هذا الزمان تحيط بنا أعوان المعاصي والشهوات؛ من الدش والنت والفيس والنساء العاريات ……..إلخ ؛ وكلما تمسك الإنسان بدينه وصبر عن المعاصي في وسط هذه الشهوات؛ تضاعف له الأجر حتى يصل إلى أجر خمسين من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم!!
أسأل الله أن يكتبنا عنده من أهل الصبر عن المعاصي إنه ولى ذلك والقادر عليه ؛؛؛؛؛؛
كتبه : خادم الدعوة الإسلامية
د / خالد بدير بدوي
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع